قلبت فى سيرة هذا العالم فوجدتها تستحق وقفة للاعتبار والاستفادة وسأبدأ بالحديث عن سيرته الرائعة قبل الحديث عن مواعظه فمن هو ابن الجوزى
من رجالات الدعوة في القرن السادس الهجري عالم العراق الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي الحسن علي بن محمد المعروف بابن الجوزي، ولد سنة 510هـ وتوفي سنة 597هـ، 1116 للميلاد في بغداد بمحلة درب حبيب
أمضى عبد الرحمن هذا طفولته يتيماً حيث توفي أبوه وله من العمر ثلاث سنين، وبعد وفاة أبيه أهملته أمه وانصرفت عنه، وتركته لعمته التي منتحته كل عطفها ورعايتها وكانت خير عوض عن فقده لرعاية أبيه أو عطف أمه عليه، بل لقد كان لحدب هذه العمة على ابن أخيها دخلٌ كبير فيما صار إليه ابن الجوزي فيما بعد عالماً مرموقاً وإماماً مشهوراً، فهي التي سهرت على خدمته وتعليمه.
ومن يدري، فلعله لو قدر وعاش أبوه لتغيرت حياته تبعاً لظروف عمل الأسرة فلقد كان أبوه وأهله تجاراً بالنحاس لم يشتغل أحد منهم بالعلم وغيره
ولقد صرح ابن الجوزي في مواضع من كتابه (صيد الخاطر) بأن أباه توفي وهو صغير وكان موسرا وخلف له من الأموال الشيء الكثير، ولهذا نرى أنه يكثر الكلام على نفسه في أكثر من كتاب فيبين أنه نشأ في النعيم، وربي على الدلال، ولأنه قد حبب إليه العلم من زمن الطفولة، ولم يرغب في فن واحد بل رغب في كل فن من فنونه
إلا أن هذه الظروف من تيسُّر المورد والبسطة في الرزق وسعة الحياة لم تدم طويلاً، فرغم أن أباه قد أورثه مالاً كثيراً كان يتيح له أن يعيش هذه العيشة الناعمة لو أن الذين تولوا تربيته ورعايته في طفولته قاموا بما يحقق العدل ويحفظ له ماله حتى يبلغ رشده.
إلا أن أمه - كما ذكرنا - أهملته وتركته لعمته، وبدد الورثة ماله ولم يعطوه إلا عشرين ديناراً ودارين، وقالوا له هذا نصيبك من إرث أبيك، فاشترى بذلك كتباً
واعتبر العلماء في زمانه كثرة الأسفار لطلب العلم مقياسا لسعة الإطلاع , لكن ابن الجوزي كسر هذا الطوق فكان عالم عصره وواعظ زمانه من غير أن يغادر بغداد أو يرحل للأخذ عن أحد كبار عصره بل اكتفى بما في بغداد من علماء
وكان يقرأ كل ما تقع عليه يداه من كتب عصره في سائر العلوم والفنون فكان بهذا النهم العلمي والشغف في القراءة عالم الأدباء وأديب العلماء
ثم إن همته في طلب العلم جعلته يصرف وقته وهمه في تحصيله، مستسهلاً الصعاب متحملاً للشدائد, قانعاً باليسير، حتى إنه يحدثنا عن نفسه بأنه لا يجد ما يقتات به إلا كسرات الخبز الجاف، ولا يجد ما يأتدم به إلا الماء البارد، ولكنه مع هذه الحياة الخشنة لم يتطلع إلى ما في أيدي الناس ولم يذل نفسه لأحد قال: "ولقد كنت أصبح وليس لي ما آكل, وأمسي وليس لي ما آكل، ما أذلني الله لمخلوق قط، ولكنه ساق رزقي لصيانة عرضي ولم يعوزني شيئاً من الدنيا بل ساق إليّ مقدار الكفاية وأزيد"
وأورث العلم في قلبه لذة فاقت كل لذة، وأنسته كل غصة قال: "ولقد كنت في مرحلة طلبي للعلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل لأجل ما أطلب وأرجو، كنت في زمن الصبا آخذ معي أرغفة يابسة فأخرج في طلب العلم وأقعد على نهر عيسى - نهر بغداد - فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء، فكلما أكلت لقمة شربت عليها شربة وعين همتي لا ترى لذة إلا لذة تحصيل العلم"
وقال أيضاً يخاطب ولده: "وما زال أبوك في طلب العلم، ولا خرج يطوف في البلدان كغيره من الوعاظ، ولا بعث رقعة إلى أحد يطلب منه شيئاً وأموره تجري على السداد {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً, وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}"
وهكذا فليتأس الدعاة وطلاب العلم..
على الواحد منهم أن يمتلك نفسه ويعف، وينطلق من قيود الرغبة والرهبة, ويرتضي لونا من الحياة بعيداً عن ذل الطمع، وشهوة التنعم, وحب الدنيا, ولله در القائل:
أمتُّ مطامعي فأرحت نفسي فإن النفس ما طمعت تهون