الطفولتان
(عصمت) ابنُ فلان باشا طفل مُترَف يكادُ ينعصرُ لِيناً، وتراهُ يَرِف رَفيفاَ مما نشأَ في ظلالِ العز، كأن لروحِهِ مِنَ الرَقةِ مثلَ ظل الشجرةِ حول الشجرة. وهو بين لِداتهِ (أصدقائه) منَ الصّبيانِ كالشَوكةِ الخضراءِ في أمُلودِها (غصنها) الريان (الطري)، لها منظرُ الشوكةِ، على مِجسةِ لينة ناعمةٍ تكَذّبُ أنها شوكةٌ إِلَا أنْ تَيبسَ وتَتَوَقَّح.
وأبوهُ “فلان “ مديرٌ لمديريةِ كذا، إذا سُئلَ عنه ابنُه قال: إنه مديرُ المديرية. لا يكادُ يعدو هذا التركيب، كأنه من غُرورِ النعمةِ يأبى إِلا أن يجعلَ أباه مديراً مرَتين... وكثيراً ما تكونُ النعمةُ بذيئةً وَقَاحاً سيّئةَ الأدب في أولادِ الأغنياء، وكثيراً ما يكون الغِنى في أهلهِ غِنى مِنَ السيئاتِ لا غير!
وفي رأي (عصمت) أن أباه من عُلُو المنزلةِ كأنهُ على جَناحِ النسرِ الطائرِ في مَسبَحِهِ إلى النجم، أما آباءُ الأطفالِ مِنَ الناسِ فهم عنَدهُ من سُقوطِ المنزلةِ على أجنحةِ الذبابِ والبَعوض!
ولا يغدو ابنُ المديرِ إلى مدرستِهِ ولا يَترَوَحُ منها إلا وراءَهُ جُنْديٌ يمشي على أثرِهِ في الغَدوةِ والروحةِ إذْ كانَ ابنَ المدير، أي ابنَ القوّةِ الحاكمة، فيكونُ هذا الجنديُ وراءَ الطفل كالمَنبَهةِ له عندَ الناس، تُفصِحُ شارتُهُ العسكريةُ بلغاتِ السابِلَةِ (المارة) جَمعَاءَ أن هذا هو ابنُ المدير. فإذا رآه العربي أو اليونانيُ، أو الطليانيُ أو الفرنسيُ، أو الإنجليزي أو كائن مَن كانَ من أهلِ الألسنةِ المتنافِرةِ التي لا يَفهَمُ لسانْ منها عن لسانٍ - فهموا جميعاً من لغةِ هذه الشارةِ أن هذا هو ابنُ المدير، وانهُ منَ الجندي الذي يَتبعُهُ كالمادةِ منَ القانونِ وراءَها الشرحِ...!
ولقد كان يجبُ لابنِ المديرِ هذا الشرفُ الصبياني. لو أنهُ يومَ وُلِد لم يولْد ابنَ ساعتِه كأطفالِ الناس، بل وُلِدَ ابنَ عشرِ سنينَ كاملةِ لتشهَد له الطبيعةْ أنه كبير قدِ آنصَدعت (جائت) به مُعجزة! وإلا فكيف يمشي الجنديُ من جنودِ الدولةِ وراءَ طفل ويخدمُهُ ويَنصاعُ لأمِره (يطيعه)، وهذا الجنديُ لو كان طَريدَ هَزيمةِ قد فرَ في معركةِ منَ معارك الوطن، وأريدَ تخليدُه فى هزيمتِهِ وتخليدُها عليه بالتصوير- لما صُورَ إلا جنديّاً في شارتِهِ العسكريةِ منقاداً لمثلِ هذا الطفلِ الصغيرِ كالخادم، في صورةٍ يُكتَب تحتها: “نُفَايَة عسكرية!“.
***
ليس لهذا المنظرِ الكثيرِ حدوثُه في مصرَ إِلا تأويلٌ واحد: هو أن مكانَ الشخصياتِ فوقَ المعاني، وِانْ صَغُرت تلك وجَلًت هذه، ومِن هنا يكذبُ الرجلُ ذو المنصب، فيُرفَع شخصُه فوقَ الفضائلِ كلها، فيكبُر عن أن يكذبَ فيكونَ كَذِبُه هو الصدق، فلا يُنكَرُ عليه كَذِبُه أيْ صِدقُه...! ويخرجُ من ذلك أنْ يتقرَر في الأمةِ أن كَذِبَ القوةِ صدق بالقوة!
وعلى هذِهِ القاعدةِ يُقاسُ غيرُها من كل ما يُخذَلُ فيهِ الحق. ومتى كانتِ الشخصياتُ فوقَ المعاني الساميةِ طَفِقَت (بدأت) هذِهِ المعاني تموجُ مَوجَها محاوِلةً أن تعلو، مُكرَهَة على أن تنزل، فلا تستقيمُ على جهةٍ ولا تنتظمُ على طريقة، وتُقْبِلُ بالشيءِ على موضعِه، ثم تَكُرُ كَرَها فتُدبِرُ بِهِ إلى غيرِ موضعِه، فتضل كل طبقةِ منَ الأمةِ بكُبرائها، ولا تكونُ الأمةُ على هذه الحالةِ في كلً طبقاتِها إِلا صغاراَ فوقَهم كبارُهم، وتلك هي تهيئةُ الاْمةِ للاستعبادِ متى أبَتُلِيَت بالذي هو أكبرُ من كبارِها، ومن تلك تَنشأُ في الأمةِ طبيعةُ النفاقِ يحتمي بهِ الصغَرُ من الكِبَر، وتنتظمُ به ألْفةُ الحياةِ بينَ الذلةِ والصولة (الغلبة و القهر)!
***
وتخلَفَ الجنديُ ذاتَ يوم عن موعدِ الرواحِ مِنَ المدرسة، فخرج (عصمت) فلم يجدْه، فبدا له أن يتسكَّعَْ (يتجول على غير هدى) في بعضِ طرقِ المدينةِ لِينطلقَ فيه ابنُ آدمَ لا ابنُ المدير، وحن حنينَه إلى المغامرةِ في الطبيعة، ولبسَتِ الطرقُ في خيالِهِ الصغيرِ زينتَها الشعريةَ بأطفالِ الأزقةِ يلعبونَ ويَتهوَشون ويَتعابَثون ويتشاحنون (يتشاجرون)، وهم شتَى وكأنهم أبناءُ بيتٍ واحدِ مستْ بكل منْ كل رَحِمٌ ، إذ لا ينتسبونَ في اللهو إِلا إلى الطفولةِ وحدَها.
وانساقَ (عصمت) وراءَ خيالِه، وهرَبَ على وجهِهِ من تلكَ الصورةِ التي يمشي فيها الجندي وراءَ ابنِ المدير، وتَغَلْغَلَ في الأزِقةِ (توغل) لا يُبالي ما يعرفُهُ منها وما لا يعرفُه، إِذ كان يسيرُ في طرقٍ جديدةٍ على عينهِ كأنَما يَحلُمُ بها في مدينةٍ من مدنِ النوم.
وأنتهى إلى كَبكَبَةٍ (جماعة) مِنَ الأطفالِ قدِ اَستجمعوا لشأنِهمُ الصبيانيّ، فانْتَبذَ (انزوى) ناحيةً ووقفَ يُصغي إليهم متهيّباَ أنْ يُقدِمَ، فاَتَّصلَ بسمعِه ونظرِهِ كالجبان، وتسمَّعَ فإِذا خبيثٌ منهم يعلمُ الآخرَ كيف يضربُ إذا اعتدَى أو اعتُدِيَ عليه، فيقول له: اضربْ اْينَما ضرَبت، من رأسِه، من وجهِه، منَ الْحُلقوم، من مَرَاق البطن، قال الآخر: وإذا مات؟ فقال الخبيث: فإذا مات فلا تقُلْ إني أنا علَّمتُك...!
وسمع طفلاً يقول لصاحبه: أمَا قلتُ لك: إنه تعلَّمَ السرقةَ من رؤيتَهِ اللصوصَ في السيمإ؟ فأجابَهُ صاحبُه: وهل قال له أولئك اللصوصُ الذين في السيّما كن لصا واعمل مثلَنا؟
وقام منهم شيطان فقال: يا أولادَ البلد، أنا المدير! تعالَوا وقولُوا لي: “يا سعادةَ الباشا، إِن أولادنا يُريدونَ الذهابَ إلى المدارس، ولكنا لا نستطيعُ أنْ ندفعَ لهم المصروفات.. “ فقالَ الأولادُ في صوب واحد: “يا سعادةَ الباشا، إِن أولادَنا يُريدونَ الذهابَ إلى المدارس، ولكنا لا نستطيعُ أن ندفَعَ لهمُ المصروفات “ فرد عليهم (سعادته): اشتروا لأولادِكم أحذيةَ وطرابيشَ وثياباَ نظيفة، وأنا أدفعُ لهمُ المصروفات.
فنظرَ إليه خبيث منهم وقال: يا سعادةَ المدير، وأنت فلِماذا لم يشترِ لك أبوك حذاء؟
وقال طفلْ صغير: أنا ابنُك يا سعادةَ المدير، فأَرسلْني إلى المدرسةِ وقتَ الظهر فقَط...!
***
وكان (عصمت) يسمعُ ونفسُه تعتز بإحساسِها، كالورقةِ الخضراءِ عليها طَل الندى، وأخذَ قلبُه يتفتح في شعاعِ الكلامِ كالزهرةِ في الشمس، وسَكِرَ بما يسكَرُ بهِ الأطفالُ حين تُقدمُ لهمُ الطبيعةُ مكانَ اللهوِ مُعَدا مهيَّا، كالحانةِ ليسَ فيها إلا أسبابُ السكرِ والنَّشوة، وتمامُ لذتها أن الزمنَ فيها منسي، وأن العقلَ فيها مُهمَل..ْ.
وأحس ابنُ المديرِ أنَّ هذه الطبيعةَ حين ينطلقُ فيها جماعة الأطفالِ على سَجيّتهِم وسجيَّتِها - إنما هي المدرسةُ التي لا جُدرانَ لها، وهي تربيةُ الوجودِ للطفلِ تربيةً تتناوَلُهُ من أدق أعصابهِ فتُبَددُ قواهُ ثم تجمعُها له أقوى ما كانت، وتُفْرِغُهُ منها ثم تملؤُهُ بما هو أتمّ وأَزيدُ وبذلكَ تكسِبهُ نموَ نشاطِه، وتُعلّمُهُ كيف ينبعِثُ لتحقيقِ هذا النشاط، فتَهديهِ إلى أن يُبدعَ بنفسِه ولا ينتظرَ مَنْ يُبدعُ له، وتجعلُ خُطاه دائماَ وراءَ أشياءَ جديدة، فتُسددُهُ من هذا كلهِ إلى سر الإبداع والابتكار، وتُلقيه العِلمَ الأعظمَ في هذه الحياة، عِلمَ نَضْرةِ نفِسهِ وسرورِها ومرَحِها، وتطبعُه على المزاجِ المتطَلقِ المتهلّلِ المتفائل، وتَتدَفقُ به على دنياه كالفَيَضَانِ في النهر، تفورُ الحياةُ فيهِ وتفورُ به، لا كأطفالِ المدارسِ الخامدينَ، تعرفُ للواحدِ منهم شكلَ الطفل وليسَ له وجودُهُ ولا عالَمُه، فيكونُ المسكينُ في الحياةِ ولا يجدُها، ثم تراهُ طفلأَ صغيراً، وقد جمعوا له همومَ رجلِ كامل!
ودبت روحُ الأرضِ دبيبَها في (عصمت)، وأوحَت إلى قلبِه بأسرارِها، فأدركَ من شعورهِ أنَّ هؤلاءِ الأغمارَ (الجاهلين الأغرار) الأغبياءَ مِنْ أولادِ الفقراءِ والمساكين، همُ السعداءُ بطفولتهِم، وأنه هو وأمثالُه همُ الفقراءُ والمساكِينُ في الطفولة، وأن ذلك الجندي الذي يمشي وراءَه لتعظيمِه إنما هو سجن، وأن الألعابَ خيرٌ منَ العلوم، إِذْ كانت هي طِفْلِيةَ الطفلِ في وقتِها، أما العلومُ فرُجولةٌ مُلزَقَة به قبلَ وقتِها تُوقرُه وتحوُلُهُ عن طباعِهِ، فتقتلُ فيهِ الطفولةَ وتهدمُ أساسَ الرجولة، فينشأُ بينَ ذلك لا إلى هذه ولا إلى هذه، ويكونُ في الأولِ طفلاَ رجلا، ثم يكونُ في الاَخرِ رجلاً طفلاَ.
وأحس مِما رأى وسمَع أن مدرسةَ الطفلِ يجبُ أن تكونَ هي بيتَه الواسعَ الذي لا يتحرجُ أن يصرخَ فيه صُراخَه الطبيعي، ويتحركَ حركتَه الطبيعية، ولا يكونَ فيه مدرسون ولا طَلَبة، ولا حاملو العصِي منَ الضباط، بل حق البيتِ الواسعِ أنْ تكونَ فيه الأبوةُ الواسعة، والأخوةُ التي تَنفسِحُ لِلمئات، فيمرُ الطفلُ المتعلمُ في نشأتِهِ من منزلٍ إلى منزلِ إلى منزل، على تدريجٍ في التوسعِ شيئاَ فشيئأ، منَ البيت، إلى المدرسة، إلى العالم.
***
وكان (عصمت) يحلمُ بهذه الأحلامِ الفلسفية، وطفولتُهُ تَشِب وتسترجِل، ورَخاوتُه تشتد وتتماسكُ، وكانَتْ حركاتُ الأطفالِ كأنها تُحركُهُ من داخِلِه، فهو منهم كالطفلِ في السيما حينَ يشهدُ المتلاكمين والمتصارعين، يَستطيرُه الفرحُ، ويتوثُب فيهِ الطفلُ الطبيعيُّ بمرَحِهِ وعُنفُوانِه، وتتقلصُ عضَلاتُه، ويتكَشفُ جِلدُه، وتجتمعُ قوتُه، حتى كأنه سيُظاهرُ أحدَ الخصمينِ ويَلكمُ الآخرَ فيُكَورُه ويصرعُه، ويفُضُ معركةَ الضربِ الحديدي بضربتِه اللينةِ الحريرية..!
فما لبثَ صاحبُنا الغريرُ الناعمُ أن تخشن، وما كذبَ أنِ اقتحم، وكأنما أقبلَ على روحِه الشارعُ والأطفالُ ولهوهُم وعبثُهم، إقبالَ الجوّ على الطيرِ الحبيسِ المعلَّقِ في مسمارٍ إذا انفرجَ عنه القفص، واقبالَ الغابةِ على الوحشِ القَنَيصِ إذا وثبَ وثبةَ الحياةِ فطارَ بها، وإقبالَ الفلاةِ على الظبِي الأسيرِ إذا ناوَصَ (رفع رأسه و تحرك للجري) فأفلَتَ مِنَ الحِبلة.
وتقدم فادغَمَ (انضم) في الجماعةِ وقال لهم: أنا ابنُ المدير. فنظروا إليه جميعاً، ثم نظرَ بعضهُم إلى بعض، وسَفَرت (بدت) أفكارُهم الصغيرةُ بَين أعينِهم، وقال منهم قائل: إن حذاءَه وثيابَه وطربوشَه كلها تقول إِنَّ أباهُ المدير.
فقال آخر: ووجهُه يقول إِن أمَهُ امرأةُ المدير....
فقال الثالث: ليسَت كأمك يابعطيطي ولا كأم جُعلُص!
قال الرابع: يا ويلك لو سمع جُعلص، فإن لَكَماتِه حينئذِ لا تتركُ أمك تعرفُ وجهَك مِنَ القفا!
قال الخامس: ومن جُعلصُ هذا؟ فليأتِ لأرِيَكم كيف أُصارِعُه، فأجتذبُه فأعصِرُه بين يدي، فأعتقلُ رِجلَه برجلي، فأدفعُه، فيتخاذل، فأعرُكُه، فيخِرُّ على وجهِه، فاأسمره في الأرضِ بمسار!
فقال السادس: هاها! إنك تصفُ بأدق الوصفِ ما يفعلُه جُعلصُ لو تناولَك في يدهِ...!
فصاحَ السابع: ويلَكم! هاهو ذا. جُعلص، جُعلص، جُعلص!
فتطَايَر الباقونَ يميناً وشِمالاَ كالوَرقِ الجاف تحت الشجرِ ضرَبتهُ الريحُ العاصف.
وقهقهَ الصبي من ورائِهم، فثابوا إلى أنفسِهم وتراجعوا. وقال المُستَطيلُ منهم: أما إني كنتُ أُريدُ أن يعدوَ جعلصُ ورائي، فأستطرِدُ إليه قليلا أُطمِعُه في نفسي، ثم أرتدُ عليه فآخذُه كما فعل “ماشيست الجبار“ في ذلك المنظرِ الذي شاهدناه.
وقهقهَ الصبيانُ جميعاً...! ثم أحاطوا (بعصمت) إحاطةَ العشَاقِ بمعشوقة جميلة، يحاولُ كلُّ منهم أن يكونَ المقربَ المخصوصَ بالحظوة، لا من أجلِ أنهُ ابنُ المدير فحسبُ، ولكن من أجل ان ابنَ المديرِ تكونُ معه القروش... فلو وجدَتِ القروشُ معَ ابن زبالِ لما منعه نسبُه أن يكون أميرَ الساعةِ بينهم إلى أن تنفَدَ قروشُه فيعودَ ابن زبال...!
وتنافسوا في (عصمت) وملاعبتِه والاختصاصِ به، فلو جاءَ المديرُ نفسُه يلعبُ مع آبائِهم ويركبُهم ويركبونه، وهم بين نجارِ وحداد، وبناءِ وحمال، وحوذي وطباخ، وأمثالِهم من ذوي المهنةِ المُكسِبَةِ الضئيلة- لكانَت مطامعُ هؤلاء الأطفالِ في ابن المدير، اْكبرَ من مطامعِ الاَباءِ في المدير.
وجرتِ المنافسةُ بينَهم مجراها، فاَنقلبت إلى مُلاحاة (جدال)، ورجَعت هذه الملاحاةُ إلى مشاحنة، وعاد ابنُ المدير هَدَفاً. للجميعِ يُدافعونَ عنه وكأنما يعتدونَ عليه، إذ لا يقصدُ أحد منهم أحداً بالغيظِ إلا تَعمدَ غيظَ حبيبِه، ليكونَ أنكأَ له وأشد عليه!
وتظاهرَوا بعضُهم على بعض، ونشأت بينهمُ الطوائل، وأفسدَهم هذا الغنيُ المتمثلُ بينهم. وياما أعجبَ إدراكَ الطفولةِ وإلهامَها! فقدِ اجتمعَت نفُوسهم على رأي واحد، فتحولوا جميعاً إلى سفاهةٍ واحدةِ أحاطَت بِابنِ المدير، فخَاطره أحدُهم في اللعبِ فَقمرَه (خسره في المقامرة)، فأبى إِلا أن يعلوَ ظهرَه ويركبَه، وأبى عليه ابنُ المدير ودافَعه، يرى ذلك ثَلماً في شرفِهِ ونسبِه وسَطوةِ أبيه، فلم يكذ يعتل بهذه العلةِ ويذكُرُ أباه ليعرفَهم آباءَهم... هاجت حتَى كبرياؤُهم، وثارَت دفائنُهم، ورقصَت شياطينُ رؤوسِهم، وبذلك وضَع الغبيُّ حِقدَ الفقرِ بإزاءِ سُخريةِ الغِنى، فألقى بينهم مسألةَ المسائلِ الكبرى في هذا العالم، وطرَحَها للحل....!
وتَنفشُوا (تهيئوا للمبارزة) للصولةِ عليه، فسخِرَ منه أحدُهم، ثم هزأ بهِ الآخر، وأخرجَ الثالثُ لسانَه، وصدمَه الرابعُ بمنكبِه، وأفحشَ عليه الخامس، ولكَزهُ السادس، وحثا السابعُ في وجهِه التراب!
وجهِدَ المسكينُ أن يفر من بينِهم فكأنما أحاطوه بسبعةِ جُدرانٍ فبطَلَ إقدامُه وإحجامُه، ووقفَ بينَهم ما كتبَ اللّه... ثم أخَذتُه أيديهم فانجدَل على الأرضِ، فتجاذبُوه يُمرغونَه في التراب!
وهم كذلك إذِ انقلب كبيرُهم على وجهِه، وَأنكفأَ الذي يليه، وأُزيحَ الثالث، ولُطِمَ الرابعُ، فنظروا فصاحوا جميعاَ: “جُعلُص، جعلص! ! وتواثبوا يشتدون هَرباً. وقام (عصمت) يَنتَخِلُ الترابُ من ثيابِه وهو يبكي بدمعِه، وثيابُه تبكي بترابِها...! ووقفَ ينظرُ هذا الذي كشفَهم عنه وشردَتهم صَولتُه، فإذا جُعلصُ وعليه رَجَفَانْ مِنَ الغضب، وقد تَبرطمَت شفتُه، وتَقَلضَ وجهُه، كما يكونُ “ماشيست“ في مَعاركِهِ حين يدَفعُ عنِ الضعفاء.
وهو طفل في العاشرةِ من لدات (عصمت)، غير أنه مُحتَنكٌ في سن رجل صغير، غليظْ عَبلٌ شديدُ الجِبلةِ متراكِبْ بعضُه على بعض (مفتول العضلات مكتنز اللحم)، كأنَّه جِنيّ مُتقاصِر يَهم أن يطولَ منه المارد، فأنِسَ به (عصمت)، واطمأن إلى قوتهِ، وأقبلَ يشكو له ويبكي!
قال جعلص: ما اسمُك؟
قال: أنا ابن المدير...!
قال جعلص: لا تبكِ يا أبنَ المدير. تعلم أن تكون جَلْداً (قويا صبورا)، فإِن الضربَ ليس بذُل ولا عار، ولكن الدموعَ هي تجعلُه ذلا وعاراً، إِن الدموعَ لَتجعلُ الرجلَ أنثى. نحن يا ابنَ المديرِ نعيشُ طولَ حياتِنا إما في ضربِ الفقرِ أو ضربِ الناسِ، هذا من هذا، ولكنك غني يا ابنَ المدير، فأنتَ كالرغيفِ (الفِينو) ضخمٌ مُنتفخٌ ، ولكنهُ ينكسرُ بلمسة، وحَشوُهُ مثلُ القطن!
ماذا تتعلمُ في المدرسةِ يا ابنَ المديرِ إذا لم تعلمك المدرسةُ أن تكونَ رجلاً يأكلُ مَن يريدُ أكلَه، وماذا تعرفُ إذا لم تكن تعرفُ كيف تصبرُ على الشر يومَ الشر، وكيف تصبرُ للخيرِ يومَ الخير، فتكونَ دائماً على الحالتينِ في خير؟
قال عصمت: آهِ لو كان معي العسكري!
قال: جعلص: ويحكَ؟ لو ضربوا عنزاً لما قالت: آه لو كان معي العسكري!
قال عصمت: فمن أين لك هذه القوة؟
قال جعلص: من أني أعتمِلُ بيدي (أخدم نفسي بنفسي) فاْنا أشتدّ وإذا جعتُ أكلتُ طعامي، أما
أنت فتسترخي، فإذا جعتَ أكلَك طعامُك، ثم من أني ليس لي عسكري..!
قال عصمت: بل القوةُ مَن أنك لستَ مثلَنا في المدرسة؟
قال جعلص: نعم، فأنت يا ابنَ المدرسةِ كأنك طفل من وَرَقٍ وكراساتٍ لا من لحم، وكأن عظامَك من طَباشير! أنت يا ابنَ المدرسةِ هو أنتَ الذي سيكونُ بعدَ عشرينَ سنةً، ولا يعلمُ إِلا اللهُ كيف يكون، وأما أنا ابنُ الحياة، فأنا منَ الآن، وعلي أن أكونَ “أنا“ من الآن!
أنتَ...
***
وهنا أدركهما العسكريُ المسخرُ لابن المدير، وكان كالمجنونِ يطيرُ على وجهِهِ في الطرقِ يبحثُ عن (عصمت)، لا حُبا فيه، ولكن خوفاً من أبيه، فما كاد يرى هذا العَفَرَ على أثوابِهِ حتى رنت صفعتُه على وجهِ المسكينِ جُعلص.
فصعَّر هذا خدَهُ (مال بخده تكبرا)، ورشقَ عصمت بنظرِه، وانطلق يعدو عَدوَ الظَّليم (ذكر النعام)!
يا للعدالة! كانتِ الصفعةُ على وجهِ ابنِ الفقير، وكان الباكي منها ابنَ الغني..!
***
وأنتم أئها الفقراء، حسبُكمُ البطولة، فليس غِنى بَطَلِ الحربِ في المالِ والنعيم، ولكن بالجراحِ والمشقاتِ في جسمِه وتاريخِه.